"إقرأ كل يوم ولن تنام بنفس العقل الذى استيقظت به "
جملة قالها عباس محمود العقاد تعكس الغاية من كتاباته ، كثيراً من المفكرين اتخذوا من الكتابة سبيلاً لتخليد ما تفكروا به على الورق، وكأي أديب يسلك بقلمه درباً للمعجزة الأدبية ويحفر به أسمه، تتسابق الأقلام والعقول وإذا بالعقاد يحوز السبق ويبلغ غاية المعجزة الأدبية ويحلق في عنان الفكر متخذاً شرعة العقاد وحده لفظاً ومعنً.
فيتفلسف بعبقريته الفريدة ويؤرخ أسمه في مصاف المفكرين الأوئل وفلاسفة عصره، ولا اصنف العقاد مفكراً فحسب بل فليسوفاً أيضاً، ولكن ليس كل الفلاسفة عندي مفكرين وإنما كل المفكرين عندي فلاسفة وتلك هي معجزة العقاد التي تجلّت في سلسلة في مؤلافاته العبقريات.
فتراه يصف كمال الإنسانية في عبقرية محمد عليه الصلاة والسلام، ويصفه وصف المقتدي به تارة ووصف الباحث عنه تارة أخرى، ويحلل في عبقريته عن محمد عليه الصلاة والسلام نماذج الدول ويقارنها بدعوة محمد فيصد المنتقدين ويرد على مآخذ المدعين بعبقرية تخص العقاد وحده وفلسفة غير فلاسفة عصره.
وقس على ذلك كل كتب العبقريات، فلا عبقرياته سير عن عظماء ولا ترجمة وإنما هي نظرة العقاد المختلفة للطبيعة الإنسانية بصفتهم بشر ونظرة لعظمتهم بصفتهم خلق الله وعبيده، فليست العاطفة الدينية هي الباعث الوحيد وإنما هي طبيعة المُفكر المُريد أو لعلها فطرة الإنسان السويّ.
وأياً ما كان باعثه لكتابة العبقريات إلا إنها تبين لنا النوع الفريد الذي امتاز به العقاد عن غيره كأديب ومفكر ومن قبل كإنسان.
إن العقاد تجربة فريدة حوت في طياتها الكثير من الصعوبات، فكر ينبض وقلم يرسم الحروف، بلاغة ألفاظه وقوة معانية التي لطالما قال عنها بعض الكتاب انها اتخذت طابع القسوة أو الجفاف وإني لأرى بأنها اتخذت شكل طبيعة الرجل الشرقي الذي سار في بادية العرب الأولين وتلقف من ثمرة اللغة الناضجة ثم تنزه في حدائق العرب المعاصرين له فصار عباس محمود العقاد الناقد والمفكر.
وأما عن عاطفته في الكتابة فتصويره للمشاعر عامة فيه العقاد بفكره وخلقه وإنسانيته فتراه يقول في كتابه "أنا" الذي يحكي فيه سيرته "أن أوجز ما يقال عن الحب أنه قضاء يملك الإنسان ولا يملكه الإنسان ولو دخل في مشيئته لما استولى عليه ولا غلبه على أمره"
فهذه رؤية لا يراها إلا العقاد وعاطفة لا يملكها سواه، نظرة امتزجت بفطرة الرجل في شعوره وبين رجاحة العقل والفكر وبين ألفاظ الأديب الناقد، وما بين ذلك وذاك إلا العقاد بشخصه وشعوره، فلا ترى في اعماله إلا فلسفته بأصول ثلاث هي قيمة العمل في العمل ذاته، وقيمة بواعث العمل لا الغاية منه، وآخراً تنظيمه لكل ذلك، وكل ما سبق هو حياة العقاد الجديرة بأن لا يحياها إلا العقاد.